وكالة نبض الشعب/ بغداد / بقلم الدكتور: مظهر محمد صالح
عاشت اوروبا في النصف الثاني من القرن العشرين عصرا من عصور الفلسفة التفكيكية ، التي أصلها فيلسوف فرنسا جاك دريدا Jackie Élie Derrida المولود في الجزائر في العام 1930. واصفاً التفكيك
deconstruction بانه مجموعة من الأساليب غير محددة المعالم لفهم العلاقة بين (النص )و (المعنى) مبتعداً الأفكار الأفلاطونية حول الأشكال والجواهر "الحقيقية" التي تقدر قيمتها فوق المظاهر.
اذ ان استخدام دريدا لكلمة التفكيك deconstruction هي بالاصل ترجمة لكتاب (التدمير) الذي ساقه الفيلسوف الالماني مارتن هايدجر Heidegger المولود في العام 1889 ،اذ يشير مصطلح هايدجر في ذلك إلى عملية استكشاف الفئات والمفاهيم التي فرضتها التقاليد على الكلمة والتاريخ الذي يقف وراءها.وهنا كان استخدام دريدا لكلمة التفكيك كترجمة لكتاب التدمير في علم اللغة .
ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، ألهمت هذه المقترحات الخاصة بمرونة اللغة بدلاً من أن تكون ثابتة وقابلة للتمييز بشكل مثالي، مجموعة من الدراسات في العلوم الإنسانية بما في ذلك تخصصات القانون،الأنثروبولوجيا، علم التأريخ،علم اللغة،علم اللغة الاجتماعي،التحليل النفسي، وغيرها . كما أثرت التفكيكية أيضًا في الهندسة المعمارية وانصرفت الى
الفن والموسيقى، والنقد الأدبي كذلك.
اما في المشرق العربي ، فيقف المفكر حسين العادلي على نقطة الافتراق بين الافلاطونية نفسها حول الاشكال والظواهر التي تقدر قيمتها فوق المظاهر، لياخذنا باوجه متجددة نحو اخاديد الفلسفة التفكيكية اللغوية والبحث من خلالها في مفارقات السياسة والاجتماع والتاريخ والانثربولوجيا التي تحاكي المجتمع الشرقي معرفيا.
ومن جانبي اجد في ثلاثية المفكر العادلي الاخيرة حول مفاهيم :
(الاستفزاز والخطر والنقص ) محاكاة للمدرسة التفكيكية في مشرقنا العربي لتجعل القاريء يتلمس هضاب وسهول وتضاريس اجتماعيات علم الاقتصاد السياسي المشرقي على اقل تقدير .
اذ يقول العادلي في مفردة
((الاستِفزَاز-
• مَن لا يُستَفَز (جُثّة)!!
إنما (الحياة) إشَارَة فإِثَارَة!!
• يستَفِزّك (العالم) بزَهْوه،
ويستَفِزّك (الجاهل) بيَقينه.
• الأسئلة استِفزَاز (العقل) للوَاقِع، والواقع الرتيب (مقبرة).
• التَّميّز (إستِفزَاز) للعَجز، وكل عَاجِزٍ مُستَفَز!!
• ثلاثة عليك (استِفزَازهم) دوماً: الحاكم، الكاتب، والعَاشق.
• (المُستَفِزٌّات) ثلاثة: النَرجسيّة، التَّفاهة، والمَزَاعم.
• كما لا يُستَفَز (المَيّت)، لا يُستَفَز (الدَنِيء).
• يستَفِزّك من (السَّاسة) ثلاثة: المَنْفوخ، المَمسوخ، والمَكفوخ!!))
فحينما يجري المفكر العادلي تفكيكا للاستفزاز وما يطويه من قوة تلامس الماضي وتجيب على الحاضر وتقلب المستقبل بفحوى هذه المفردة ، اجد نفسي داخل محاور المدرسة التفكيكية المشرقية لامحالة ، لاجيب
نفسي عن الاستفزاز بالقول: ((استفزاز الحكيم يقود الى اطلاق مكنونات الحُكم الصالح وفواعل الحكمة للدفاع عن افضليات الفكر او المعتقد او الحياة ، في وقت يحصد (فعل الاستفزاز) في عقول الجهلة وانصافهم والحمقى من الناس (وقت ارتكاب الفعل ) إلى اضطراب العقل أو حجبه بالعاطفة إلى الحد الذي قد يجعل الأشخاص العاديين متوسطي الطباع عرضة للتصرف بتهور أو دون تعمد أو تفكير، وعن انفعال، بدلاً من الصلاح واطلاق الحكمة والعاطفة المنضبطة .فبين اولئك وهولاء حجاب يسمى حجاب الجهاله The veil of ignorance كما يسميه عالم الاقتصاد Rawls لا يطلق مكنوناته الفضلى الا بالحث والاستفزاز نفسه.
اما في مفردة (الخطر )التي تناولها العادلي عند تفكيكيها وما تفرضه الحياة من سلوكيات في علة الخطر وحصاد المعلول منها في أنثربولوجيا الحياة والاجتماع والسياسة ، فيقول الكاتب والمفكر حسين العادلي في الخَطَر-((
• خَطَر (المَرء) شَرفه، فامتَحِن الشَّرف بالمَواقِف.
• الأخطَار كنز (فُرص)، ورِئة (الفُرصة) المُغامَرة.
• أعمى (البَصيرة) ثلاثة: مَن لا يرى إشارات الخطر، ومَن لا يُدرك عاقبة الأمور، والمُؤتمِن قبل الإختِبار.
• أخطر ما على الإنسان (الإنسان)، ويُلدغ المَرء من مَأمنِه!!
• مُتجنب الأخطَار (رعديد)، ومُتلفع السَّلامة (تابع)، وكل مُخاطِر (رائد).
• (الأخطار) في ثلاثة: نزَق السلطة، ركوب المجهول، وتوهم السَّلامة!!
• أعظم خطر على الوعي (الأيديولوجية)، وأشنع خطر على السّلوك (النفاق).
• إمتَحِن (القائِد) بثلاث: شَمّ الأخطار، اغتنام الفُرص، والسَّبق بالمواقف)).
وعندما نذكر مفردة الخطر في علم الاقتصاد السياسي واجتماعياته ،تتهاوى امامنا مفردة (الخسارة )على الدوام .
فالخطر كما اتلمسه وعلى وفق الرؤية التفكيكية لايخرج عن احتمالات الخسارة حقاً في الحياة الاقتصادية.او بعبارة اعم :الخطر هو احتمال حدوث شيء سيئ.
وبهذا تنطوي المخاطر على عدم اليقين بشأن تأثيرات/او آثار نشاط ما فيما يتعلق بشيء يقدره البشر (مثل الصحة أو الرفاهية أو الثروة أو الملكية أو البيئة وغيرها) وغالبًا ما تركز الاخطار على العواقب السلبية غير المرغوب فيها.
وهنا بلا شك نوعان من المخاطر عند اتخاذ القرارات الاقتصادية ،فعلى سبيل المثال: هناك مخاطر نظامية وغير نظامية. فالمخاطر( النظامية )هي تلك المرتبطة بالاقتصاد بأكمله( مخاطر كلية)، مثل فترات الركود الاقتصادي أو الأحداث الجيوسياسية والحروب وغيرها. اما المخاطر (غير النظامية )هي مخاطر (فردية )خاصة بنشاط شركة ما او فرد ما، مثل عدم الكفاءة التشغيلية، والمشكلات القانونية، والتغيرات في الطلب على المنتج الذي ينتجه النشاط .
فاذا كان النشاط الاقتصادي يتعرض للمخاطر النظامية وغير النظامية ، فان الحياة بمجالاتها كافة هي عرضة لكلا الخطرين … والاخطر عندما تتعرض الامة لمخاطر نظامية يتسبب فيها (متفرد )مستبد يجعل من الاخطار غير النظامية لدية الى خطر نظامي تتحمله( الامة) … وهذا هو جوهر مفردة الخطر في النظم الاستبدادية والتي جربتها شعوب الارض على مدار التاريخ في تجيير الخطر من الفرد ( الدكتاتور) الى الامة (المنكوبة) باكملها.
وأخيرا ،تاتي مفردة (النقص) التي قادت المفكر العادلي الى تشريح جذرها المعنوي والحقيقي عبر ازمنة الحياة اليومية ليضعها في نطاق مقاربة مدرسته التفكيكية بالقول:
((النَّقص -
• إذا (نَقص) الإِشتِهاء (ازدَاد) التَّرَفُّع، وإذا (رَبَا) التَّرَفُّع (نَمَا) الإستِنكاف، وإذا (كَثُرَ) الإستِنكاف (ذَكَا) السَّدَاد.
• (النَّقِيصَة)؛ سَدّ النَّقص بمَنقَصَة. ومُحال أن يدركها نَاقِص حَال!!
• نَقص (الحِكمة) حُمق، نَقص (التّجربة) اغتِرار، ونَقص (الأنَفة) إِذْعان. وكما يتناقَص (الصَّوَاب) بالنَّزق، يتَعَاظَمَ (النَّزق) بالطَّمع.
• (يتوَهم) الكَمال النَّاقِص، وآفَة الإكتِمال التَّكَبُّر.
• لا (يَنتَقِص) سوى النَّاقِص. مَن وَقَّرَ غَمَر، ومَن غَمَر ظَفَر.
• الفَسَاد (نُقصَان) شَرف، والنَّزَاهَة (تَمَام) عُلُوّ.
• تجِد (عُقدة النَّقص) ضَالّتها في ثلاث: النَّرجسي، وحديث النِّعمة، ومَن تطفح به الصُّدفة.
• كُلّما ازدَاد (القَادة) نَقصت (القِيادة)، وكُلما تَفَشَّى (السّاسَة) فَشلت (السِّياسَة).
ختاماً، في مفردة النقص التي فككها العادلي عبر محاور اقتربت من حالة (نفي النفي )في الفلسفة الجدلية، اذ يمكنني القول :
اذا كان النقص هو الفشل في استرجاع شي خلاف ماهو مقرر له، فان ذهابه يصبح (زيادة ) لمن لايستحقه وهو (نقص النقص )وتحديداً للنواقص من البشر .وهو سلوك يحاكي بالتوازي فلسفة (نفي النفي )لبلوغ حالة معظمة او متفوقة من إضافة النقص او تحقيق زيادة مستلبة.
فالغدر والسرقة والأثراء الفاحش بشكليه: الاستغلال والاستبداد هما نماذج (زيادة )مشتقة من جدلية (نقص النقص ) التي تقارب او توازي جدليات (نفي النفي ) وهو مايثبت القاعدة العامة ( الزيادة هنا تعظيم للنقصان
في موازين الباطل).
كما تقول العرب : لا يسرق أمينٌ ولا يخون أصيلٌ .
انتهى
0 التعليقات:
إرسال تعليق